2005
روح الأرواح
تأليف : د.علي بن عمر بادحدح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد ..
فإن الله خلق الإنسان من قبضة طين ونفخة روح ، ويسر للجزء الطيني غذاءه من الأطعمة والأشربة التي تنمو بها الأجساد، وتقوى بها الأبدان، وأما الروح فهي السر الأعظم الذي لا يعرف كنهه البشر { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } فهذه الروح لا يمكن تغذيتها ولا تقويتها ، ولا حمايتها ووقايتها إلا من طريق خالقها وبارئها { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } .
ولقد جعل الله للروح ما تسمو به وترتقي ، وما ترق به وتشف ، وتسعد به وتلتذ ، فتصبح حنيئذ في تمام النقاء والصفاء ، وكمال القوة والنشاط ، ألا وإن أعظم ما تحيى به الروح وتسعد ذكر خالقها الذي به تتغذى ، ومعراجها الذي فيه تترقى ، وزينتها التي بها تتحلى ، وعدتها التي بها تتقوى ، فالذكر : " منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل ، ومن منعه عزل ، وهو قوت قلوب القوم التي متى فارقها صارت الأجساد لها قبوراً ، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بوراً ، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق ، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الحريق ، ودواء أسقامهم الذي إذا فارقهم انتكست منهم القلوب ، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت توصلهم إلى علام الغيوب ، به يستدفعون الآفات ، ويستكشفون الكربات ، وتهون عليهم به المصيبات ، إذا أظلهم البلاء فإليه ملجؤهم ، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم ، وهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون ، يدع القلب الحزين ضاحكاً مسروراً ويوصل الذاكر إلى المذكور ويجعله ذاكراً مذكوراً "[تهذيب المدارج ص:463] ، فلله در ابن القيم ما أبدع وصفه ، وما أعمق فهمه ، فتأمل تلك المعاني ولنمض معاً لمزيد من الإيضاح والإفصاح عن روح الأرواح .
الذكر هو العبادة المطلوبة بلا حد ينتهى إليه { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } وبلا وقت تختص به { ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى} وبلا حال تستثنى منه { الذي يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } .
وهذه تذكرة في الذكر نبدأ فيها بمعنى الذكر ودلالته، ونثني بمكانته وأهميته ونقف مع فوائده وآثاره، ونعرج على أقسامه وأنواعه، والله أسأل أن يجعلنا من الذاكرين، وأن يتقبلنا في عباده الصالحين .
أولاً : معنى الذكر ودلالته
الذكر: ضد الغفلة والنسيان ، والغفلة : ترك الذكر عمداً ، وأما النسيان : فتركه عن غير عمد .
ولذا فالغفلة مذكورة في القرآن الكريم في معرض النهي والتحذير كما في قوله تعالى : { واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين} وكقوله جل وعلا : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } .
بينما النسيان ليس كذلك لعدم صدوره عن قصد ومن هنا جاء التوجيه القرآني العظيم { واذكر ربك إذا نسيت }.
والذكر يشمل معنيين :
الأول : بمعنى التذكر واستحضار الشيء في الذهن كقولك ذكرت حادثة كذا وكذا إذا استحضرتها في ذهنك ، ومرت دقائقها بمخيلتك ، وهذا المعنى ضد النسيان ، ومنه قوله تعالى :{ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } ، فأصل الذكر : التنبه بالقلب للمذكور والتيقظ له ومنه قوله تعالى :{ اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } أي تذكروها [ المفهم7/6 ] .
والثاني:هو النطق باللسان ، وهو استعمال غالب ، فإذا قلت : فلان يواظب على الأذكار ، أي يتلفظ بها ومنه قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } .
والذكر عندنا هنا يشمل على الاثنين ، فالذكر معنى التذكر مقصود به تذكر الله واستحضار عظمته وخشيته ، ومراقبته ونعمته حتى يكون القلب له معظماً ، ومنه خائفاً وله مراقباً، ولنعمته شاكراً .
وكذلك الذكر اللساني إذ هو ثمرة ذلك ، وشاهد عليه ، ومترجم عنه ، فمن عظّم الله في قلبه سبّح وهلّل وكبّر بلسانه ، ومن خافه تضرع ودعا " وسمي القول باللسان ذكراً ؛ لأنه دلالة على الذكر القلبي ، غير أنه قد كثر اسم الذكر على القول اللساني حتى صار هو السابق إلى الفهم " [ المفهم7/6