الغنيمة التاسعة: قيام الليل
قيام الليل عبادة عظيمة كان للمصطفى – صلى الله عليه وسلم - بها اختصاص مذكور في قوله تعالى : {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } وسياق الآية مشعر بفضل قيام الليل وعظيم أثره ، وذلك لربطه بما ذكر بعده من نيل المصطفى – صلى الله عليه وسلم - المقام المحمود ، وهو مقام الشفاعة يوم القيامة ، وقيام الليل عمل ذكره الحق - جل وعلا - في أعمال وأوصاف المؤمنين حيث قال : { إنما يؤمن يآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لايستكبرون * تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون } . وامتدح الله به المتقين عند ذكر أنهم { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون } وعده من خلال عباد الرحمن فقال في حقهم : { والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً }.
قيام الليل مدرسة الإيمان والتقوى ، ومنبع التزكية والتطهير، به تحيا القلوب وتزداد إشراقاً ، وبه تسمو النفوس وتمتلئ أشواقاً ، فيه تذرف العيون دموع الخشية والندامة ، وتلهج الألسن بدعوات التضرع والإنابة ، وتتمرغ الجباه في سجود الذل والاستكانة .
قيام الليل مظنة إجابة الدعاء كما قال خاتم الرسل والأنبياء – صلى الله عليه وسلم - : ( إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه ، وذلك في كل ليلة ) [ رواه مسلم ] .
وهو من أسباب دخول الجنة كما يبين البشير النذير - عليه الصلاة والسلام - حين قال : ( أيها الناس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلّوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام ) [رواه الترمذي ] .
وقيام الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة بنص حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم - . رواه مسلم .
والآن لعلك تقول كما يقول كثير من الناس- وكلنا ذاك الرجل – : "لم نعد نقوم الليل، ولا طاقة لنا به ، ضعفت عنه هممنا ، وقعدت عنه عزائمنا ، وثقلت عن القيام به أجسادنا ، وشغلتنا عنه أموالنا وأهلونا ، ومع أنني أدعو نفسي وأدعوك وأدعو كل مسلم أن لا يفوّت قيام الليل ولو ركعتين ؛ فإن في ذلك خير كثير ، وأجر كبير ، ولكنني مع ذلك أسوق لك غنيمة عظمى من غنائم الفجر ، إذا أديت صلاة الفجر فكأنما قمت الليل كله ، نعم !كله لا بعضه ، وليس هذا من عندي ، بل هي غنيمة جاء بها حديث المصطفى – صلى الله عليه وسلم - الذي يرويه عثمان بن عفان – رضي الله عنه – ، عنه - عليه الصلاة والسّلام - أنه قال : ( من صلى العشاء في جماعة ، فكأنما قام نصف الليل ، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله ). [ رواه مسلم ] .
إذن فأنت بذلك تنال غنيمة جديدة أكيدة ، فتمسك بها ولا تفرّط .
الغنيمة العاشرة: الخير العميم
خير بلا حد ، وفضل بلا سد ، وحسنات بلا عد ، عطاء يفوق الوصف ، وهبات تزيد على الضعف ، لا لا تقل إنها مبالغات ، كلا ! فهذا جود رب الأرض والسماوات ، إنه الذي لا تنفذ خزائنه ، ولا ينقص ملكه ، وإن أعطى كل سائل مسألته .. {ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما } .
تصور- أخي القارئ- أن هذه الغنيمة التي سأخبرك بها ليست من غنائم صلاة الفجر ، بل هي غنيمة ركعتي السنة قبل صلاة الفجر ، ولك -بعد أن تعرف الغنيمة – أن تتساءل وتقول : إذا كان هذا لركعتي السنة ، فكيف إذن ركعتي الفريضة ؟ .
اقرأ معي حديث عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها - ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ) رواه مسلم ، وفي رواية : ( لهما أحب إليّ من الدنيا وما فيها ) .
سبحان الله (خير من الدنيا وما فيها ) !! الدنيا بذهبها وفضتها ، وجمالها ونسائها ، الدنيا بكل ملذاتها وشهواتها {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث } نعم ركعتا الفجر خير من كل ذلك ، ويعدل كل ذلك ويزيد عليه ، والرواية الثانية مؤيدة ومؤكدة لهذا المعنى عندما جاء لفظها بالمقارنة بين الدنيا وركعتي الفجر وقال الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – ( لهما أحب إليّ من الدنيا جميعاً ) ، إذن فكرر معي فكيف صلاة الفجر ذاتها ؟ .
إنها غنيمة بلا حدود ، فاسع إليها وقيدها بالقيود ؛ فإن عائشة – رضي الله عنها – قالت : (لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر ) [ متفق عليه ] .
الغنيمة الحادية عشر: الحجة التامة
لاشك أنك تعرف أن الحج ركن من أركان الإسلام ، وأن أجره عظيم يخرج به الإنسان من كل ذنوبه ويعود كما ولدته أمّه ، وهو فريضة في العمر مرة واحدة ، وغنائم الفجر تمتد حتى تشمل الحج والعمرة وأجرهما معاً .
رأيت معي الغنيمة العظمى فيما قبل الفجر ، وهذه أخرى جليلة وهي فيما بعد الفجر ، فعن أنس – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ( من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة ) [ رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ] .
وأزيدك أيضاً فعن أبي أمامة قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ( من صلى صلاة الغجر في جماعة ، ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ، ثم قام وصلى ركعتين ، انقلب بأجر حجة وعمرة ) قال المنذري : رواه الطبراني وإسناده جيد [ الترغيب والترهيب1/296 ] .
واقرأ معي أيضاً حديث أبي ذر – رضي الله عنه - عن المصطفى – صلى الله عليه وسلم - : ( من قال دبر صلاة الفجر - وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم - : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك يحي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات ، كتب الله له عشر حسنات ، ومحا عنه عشر سيئات ، ورفع له عشر درجات ، وكان يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه ، وحرس من الشيطان ، ولم ينبغ بذنب أن يدركه في ذلك إلا الشرك بالله تعالى ) .
ألا ترى كم هي عظيمة وجليلة هذه الفضائل في أعقاب الفجر ، وبعد أداء الفريضة في ذلك الوقت الذي فيه الهدوء والسكينة والنسمات الندية العليلة ، لتبدأ يومك بعد الفجر بالذكر ، وتنال عظيم الأجر .
فهل تترك ذلك مع ما فيه من حياة القلب ، وسمو الروح ، وزكاة النفس لأجل نعاس يداعب جفنيك أو قليل من التعب يوهن جسمك ؟ ولو تأملت وعزمت لهان الأمر عليك وتيسر الأداء لك ؛ فإنما هي ساعة لا أكثر .
فيالها من غنيمة واظب عليها ولا تتقاعس ولا تكسل .
الغنيمة الثانية عشر: البركة الباكرة
روى جابر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( اللهم بارك لأمتي في بكورها ) [رواه الطبراني في الأوسط ] والبكور أول النهار ، وقد جعل الله فيه البركة وهي : النماء والزيادة . فالمبارد المبكّر إلى أي عمل يجد بركة من الله - تعالى - في عمله ؛ فإن توجه لطلب العلم وجد سهولة في الفهم ، وقدرة على التحصيل ، وسرعة في الاستيعاب ، وإن بدأ حفظ القرآن رأى يسراً في الحفظ ، وجودة في الضبط ، واتقاناً في المراجعة والاستذكار ، وإن سعى لطلب رزق وجد كثرة في الرزق وزيادة في الدخل ، وإن مضى لأداء مهمة تيسرت أسبابها وذللت صعابها .
إن وقت البكور تتوفر فيه أسباب النجاح وجودة الأداء ؛ لأن الجسم يكون في كامل طاقته ، وذروة نشاطه بعد اكتمال راحته وتمام نومه ، كما أن الذهن يكون صافياً لعدم انشغاله وهدوء باله ، إضافة إلى أن وقت البكور فيه هدوء وسكينة لقلة الناس وندرة الحركة ، ويزاد على ذلك أن تلك الساعات الأولى تضيف فسحة من زمن النهار يتضاعف بها الإنتاج ، وتزداد بها المنجزات .
والذين يصلون الفجر في وقتها يدركون البكور وينالون بركته ، ويجنون ما فيه من المنح الحسية والمعنوية وتلك أيضاً غنيمة فاغتنمها ولا تكن من الخاسرين .
أيها النائم :
بعد هذا الحشد الكبير ، والسرد العظيم لهذه الغنائم التي فيها أجر عظيم ،وفضل كبير ، ومنافع دنيوية ، وأخرى أخروية ، وفيها نعمة دخول الجنة ، ولذة النظر إلى وجه الله - جل وعلا – بعد هذا كله هل تطيب نفسك أن تحرمها من كل ذلك لأجل نوم على فراش وثير في هواء بارد ؟ هل يعقل أن تستسلم لضعفك لمجرد طلب المزيد من الراحة ، أو عدم مقاومة قليل من التعب ؟ هل ترضى أن تكون من الغافلين ؟ وهل تحب أن تكون من المحرومين ؟ ألست ترى آثار ترك صلاة الفجر وتأخيرها ؟ ألا تراها في محق البركة وخبث النفس وثقل البدن ؟ ألا تشعر بجفاف الروح وقسوة القلب ؟ أين أنت من نداء الأذان يشق صمت الليل بكلمة التوحيد والدعوة للفلاح ؟ وأين أنت من قرآن الفجر يصب في سمع الزمان آيات الله في كل مكان ؟ وأين أنت من أفواج الملائكة بالآلاف المؤلفة وهي نازلة صاعدة ؟ ألا يوقظك كل هذا ويحرك مشاعرك ؟ ألا يهيجك لتترك مضجعك وتفارق مرقدك وتهب إلى الصلاة وتبادر إلى الفلاح ؛ لتكتب في الذاكرين وتكون من العابدين وتنال البشريات وتحظى بالأعطيات ؟ .
إنني أدعو فيك إيمانك بالله وهو مستقر في قلبك وهو يملأ نفسك .. إنني أخاطب فيك إيمانك بالمصطفى – صلى الله عليه وسلم - وهو الذي يملأ بحبه قلبك ، وينطق بالصلاة والسلام عليه لسانك ..إنني أدعوك إلى الخير الذي تحبه والأجر الذي تنشده فلا ولا ولا تكن من الغافلين النائمين .
ويحك أيها النائم إن جوائز الدنيا وأعطيات أهلها رغم أنها لا تعدل شيئاً مقارنة بما ذكرت لك من غنائم الفجر ؛ فإنها مع ذلك لا تكون إلا نادراً ولا تتكرر إلا الفترة والفترة ومع ذلك ؛ فإنني أعلم أنك تستعد لها في كل مرة ، وتفرغ لها نفسك ، وتبذل لأجلها جهدك ، وتخفف وربما تكفي لنيلها راحتك ؟ ألست إذا كان عندك مهمة في العمل لها أثرها في مرتبك ومرتبتك سهرت لأجلها الليل الطويل ، أو ذهبت إليها في منتصف الليل أو آخره ؟ وذلك لكي تنال منفعة عارضة لمرة واحدة فما بالك تترك المنافع العظيمة مع كل انبثاق فجر باستمرار لا انقطاع معه ، وكرم وعطاء لا يتبدل ولا يتغير .
« أيها النائم استيقظ وبادر إلى الغنائم » .